• ×
| 23-09-1443 الإثنين 13 ربيع الأول 1446

العرب وثقافة الارتجال

بواسطة admin 23-03-1430 03:11 مساءً 8933 زيارات
في نص شهير للجاحظ ورد في كتابه البيان والتبيين يرد فيه على الشعوبيين وينتصر للعرب يقول \"وفي الفرس خطباء ، إلا أن كل كلام الفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكر، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار ذلك الفكر عند آخرهم. وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر، ولا استعانة. وإنما هو يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخطام ، أوحين أن يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع، أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده\". (البيان والتبيين ، دار صعب، تحقيق فوزي عطوي، صـ404).
هل تغيّر شيء؟ اليوم حين يأتي الحديث عن الخطباء. يثير الكثير من المستمعين ملاحظة سلبية على الخطيب كونه يقرأ من ورقة وهو بهذا لا يقارن مع الخطيب الذي يرتجل خطبته من غير ورقة. كما أن الزعيم الذي يبدع خطبته ويرتجلها ارتجالا لا يزال أكثر أثرا من ذلك الذي يقرأ من ورقة. يتحدث الجاحظ عن الخطابة، والخطابة عند العرب هي عنوان الحكمة العربية، فالحكماء العرب يلقون حكمهم عن طريق الخطابة. يذكر الجاحظ أن المعرفة عند الفرس والعجم عموما تراكمية يتناقلها جيل على جيل وهي معرفة تطلب من الكتب ومن التشاور وطول التفكر، أما عند العرب فهي معرفة لا تتوفر فيها خاصية التراكم ولا التسلسل، بل تعتمد على الارتجال وكأنها إلهام نزل للتوّ. يذكر الجاحظ، مادحا العرب، أن المعرفة عند العربي لا تنتج عن تفكير ولا استعانة بأحد، بل هي معرفة اللحظة التي تقررها اللحظة.
نحن هنا أمام نمط من أنماط التعامل مع المعرفة والفكر له علاقة بتصور العلم ودور الإنسان فيه. هذا النمط هو الذي يتحكم في تصرف الإنسان ويطبع ممارسته ونظرته للعلم والمعرفة بطابعه. يعلق الجابري على هذا النص ويقول\" إن الجاحظ الذي ساق ملاحظاته في إطار الإشادة بالعرب ورد هجمات الشعوبية ، ربما لم يكن منتبها إلى أنه يسلب العرب القدرة على \"التعقل\" بمعنى الاستدلال والمحاكمة العقلية\"(تكوين العقل العربي، صـ32). التعقل المقصود هنا، هو إدراك أن هناك مواصفات موضوعية للمعرفة والعلم يجب على الفرد أن يدركها قبل أن يقول قولا في المعرفة وألا تكون المواقف والآراء مبنية فقط على ردة الفعل الآنية وارتجال اللحظة.
يغرم العرب كثيرا بردود الفعل السريعة والمباشرة ويضايقهم كثيرا التريث والتمهّل وإعادة التفكير والنظر. لدرجة أن المواصفات الأولى أصبحت مواصفات الشجاعة والفروسية، أما الثانية فهي مواصفات تشير إلى الخوف والجبن. لا يقتصر الأمر على المواقف الشعرية، بل يمتد إلى القرارات السياسية الكبرى والتي يرتبط بها الكثير من القضايا الإنسانية والمادية.نذكر جميعا قصة الخليفة المعتصم والمرأة حيث استغاثت امرأة بالخليفة العباسي المعتصم وصاحت \"وا معتصماه\" من جور وقع عليها في بلاد الروم لينتفض الخليفة في ذات اللحظة ويقرر الحرب. وأيا كانت القصة حقيقية أم خيالية إلا أن تقبل الفكر العربي لردة فعل المعتصم هذه هو الشاهد. قرر حربا كبيرة في لحظة دون أي استشارة ولم يعتبر أحد هذا التصرف دليلا على عدم دراية سياسية أو استخفافا بالدولة وبالناس.
إن الملاحظة الفردية اليوم تشير إلى أن هذا النمط من التفكير عند العرب لم يتغيّر بل هو باق ومترسّخ. وإن كان الجاحظ حدثنا هناك عن الخطابة العربية فإننا اليوم نعرف هذا النمط في القرارات السياسية والاقتصادية وفي المواقف الفكرية والعملية. وكل من دخل صناعة القرار في المؤسسات العربية يعلم أنها في الغالب لا تبنى على دراسات علمية عن بحث وتروي، بل هي في الغالب تعبير عن مواقف شخصية وذاتية جدا والدليل على ذلك أن هذه المشاريع والقرارات تتغير بمجرد تغير صاحب القرار.
هذه النظرة أيضا تؤثر على العرب في قراءتهم للأحداث والمواقف حولهم وبما أن كلا يرى الناس بعينه الخاصة فإننا نعتقد مثلا أن تغيّر رئيس دولة غربية ما يعني تغيّر سياستها.هذا ما حدث مع قدوم باراك أوباما للرئاسة الأمريكية، حيث حسب البعض الأمر بحسبة عربية خاصة تعني أن الرئيس هو كل شيء وأن تغييره يعني تغيير كل شيء.ولدينا عربيا الكثير من التجارب التي تتغير فيها مواقف الدولة وسياساتها بشكل عكسي بمجرد تغيير الرئيس صاحب الصلاحية المطلقة. ولا تزال المؤسساتية حلما بعيد التحقيق في السياق العربي. ولعل تحليلنا هنا يساعدنا في فهم هذه العلة باعتبار أن المؤسساتية تعني العمل الجماعي والأدوار الجزئية واحترام التراكم المعرفي والخطط المشغولة بمنهجية وعناية. وهذا ما لا يزال يعارض نمط التفكير العربي كما قرره الجاحظ والذي لم تحدث معه قطيعة حتى الآن.
هذا الداء موجود أيضا عند المثقفين الذين يفترض بهم أنهم يملكون وعيا نقديا يساعد في إخراجهم من هذه الأنماط القديمة. تجد عند الكثير من المثقفين العرب تلك الروح الوهمية بالتفرد فهو ينفي أن يكون تأثر بأحد أو أن ينتمي لمدرسة أحد أو أنه تتلمذ على يد أحد في يوم من الأيام.يقدم نفسه على أنه وحيد عصره وفريد قومه مبدعا بلا أصل وبلا سابق ولن يكون له لاحق. في كتاباته يرفض الاستشهاد من قد يظن تأثره به وإن ردد أحيانا أفكاره. يسعى بكل قواه أن ينفي عنه تأثره بأحد خصوصا من أقرانه ولذا تجده ينفر من الأعمال الجماعية وينفر حتى من الاستشهاد بغيره من المثقفين العرب المحيطين به وإن اضطر لذكرهم فهم دائما في الهامش ولا يمكن أن يصلوا إلى المتن.
هذا النمط من التفكير يجعلنا نواجه مشكلة مع العلم والمعرفة. فدون الاعتراف بأن العلم والمعرفة يتطلبان معايير موضوعية خارجة عنا فإننا لن نحقق تراكما ولا تأسيسا مدرسيا للمعرفة والعلم.يفسر هذا النمط من التعامل مع المعرفة جزئيا المشكلة العربية مع المعرفة العقلية والمنهجية.التاريخ يقول إن المسارات العلمية والفلسفية لم تستطع تكوين مدارس ذات استمرار وتراكم كل ما هنالك هو سلسلة من الأفراد المعدودين حاولوا قدر الإمكان الاشتغال في هذه المجالات وسط محيط نابذ ورافض لهم.
هذا التحليل يعيدنا إلى مستوى عميق جدا من النقد ، يصل إلى مستوى نظم الفكر والمعرفة التي تتحكم بنا بوعي وبدون وعي. وهنا تأتي أهمية القطيعة المعرفية باعتبارها أساسا تغييرا في أنظمة الفكر. لدينا هنا نظام راسخ ينفر من العلوم التي تحتاج إلى إطالة نظر وتفكير ومنهجية وتعلم وانتساب لمدارس وتراكم معرفي. نظام يمجد الارتجال ويسعد بالمقولات المرتجلة والعبارات التي ترد نتيجة لحظتها. ينتج هذا النظام سلوكا وتصرفات واقعية لها نفس الطابع ربما كانت تناسب حياة الصحراء والبداوة ولكنها في حياة المدينة والتجمعات البشرية الكبرى وعصر العلم والتكنولوجيا تعتبر إعاقة شديدة وأزمة حقيقية.